فصل: الفرق بين الكتاب والسفر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفرق بين الكتاب والدفتر:

أن الكتاب يفيد أنه مكتوب ولا يفيد الدفتر ذلك ألا ترى أنك تقول عندي بياض ولا تقول عندي كتاب بياض.

.الفرق بين الصحيفة والدفتر:

أن الدفتر لا يكون إلا أوراقا مجموعة والصحيفة تكون ورقة واحدة تقول عندي صحيفة بيضاء فإذا قلت صحف أفدت أنها مكتوبة وقال بعضهم يقال صحائف بيض ولا يقال صحف بيض وإنما يقال من صحائف إلى صحف ليفيد أنها مكتوبة وفي القرآن {وإذا الصحف نشرت}، وقال أبو بكر الصحيفة فطعة من ادم أبيض أو ورق يكتب فيه.

.الفرق بين الكتاب والمصحف:

أن الكتاب يكون ورقة واحدة ويكون جملة أوراق والمصحف لا يكون إلا جماعة أوراق صحفت أي جمع بعضها إلى بعض وأهل الحجاز يقولون مصحف بالكسر أخرجوه مخرج ما يتعاطى باليد وأهل نجد يقولون مصحف وهو أجود اللغتين وأكثر ما يقال المصحف لمصحف القرآن والكتاب أيضا يكون مصدرا بمعنى الكتابة تقول كتبته كتابا وعلمته الكتاب والحساب وفي القرآن: {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس}، أي كتبا في قرطاس ولو كان الكتاب هو المكتوب لم يحسن ذكر القرطاس.

.الفرق بين الكتاب والسفر:

أن السفر الكتاب الكبير وقال الزجاج الأسفار الكتب الكبار وقال بعضهم السفر الكتاب يتضمن علوم الديانات خاصة ولاذي يوجبه الاشتقاق أن يكون السفر الواضح الكاشف للمعاني من قولك أسفر الصبح إذا أضاء وسفرت المرأة نقابها إذا ألقته فانكشف وجهها وسفرت البيت كنسته وذلك لإزالتك التراب عنه حتى تنكشف أرضه وسفرت الريح التراب أو السحاب غذا قشعته فانكشفت السماء.

.الفرق بين الكتاب والمجلة:

أن المجلة كتاب يحتوي على أشياء جليلة من الحكم وغيرها قال النابغة من الطويل:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ** كريم به يرجون حسن العواقب

ويقال للكتاب إذا اشتمل على السخف والمجون وما شاكل ذلك مجلة. اهـ.

.تفسير الآيات (6- 8)

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{إن الذين كفروا} أي وقع منهم الستر لمرائي عقولهم بعد صرفها للنظر الصحيح فضلوا واستمروا على ذلك وإن لم يكونوا عريقين فيه {من أهل الكتاب} أي اليهود والنصارى {والمشركين} أي العريقين في الشرك، ودل بالإتيان بالوصف هنا والفعل في أولئك- والله أعلم- على أن المشرك يرجع عن شركه ويؤمن إن لم يكن عريقًا في الشرك بخلاف أهل الكتاب متى تلبس أحد منهم بكفر لا يرجع عنه وإن كان تلبسه به على أضعف الوجوه، وكذا كل من ينسب إلى علم ولاسيما إن كان بليدًا متى عرضت له شبهة بعد رجوعه عنها، فلذلك جمع بينهم في قوله: {في نار جهنم} أي النار التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة تكون عذابًا لأجسامهم {خالدين فيها} أي يوم القيامة أو في الحال لسعيهم في موجباتها، واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب التساوي في النوع بل يختلف بحسب اشتداد الكفر وخفته.
ولما كان معظم السياق للعبادة والترغيب فيها من القراءة والسجود والانفكاك عن الكفر، لم يذكر التأبيد بلفظه، بل اكتفى بما دل عليه وقال في نتيجة ما مضى: {أولئك} أي البعداء البغضاء {هم} أي خاصة بما لضمائرهم من الخبث {شر البرية} أي الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم، وفرطوا في حوائجهم ومآربهم، وهذا نار لأرواحهم حين ينادى عليهم به.
ولما ذكر الأعداء وبدأ بهم، لأن السياق لذم من جمد من المألوف وترك المعروف، أتبعه الأولياء فقال مؤكدًا لما للكفار من الإنكار: {إن الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان من الخلق كلهم الملائكة وغيرهم {وعملوا} أي تصديقًا لإيمانهم {الصالحات} أي هذا النوع، ولما كان نعيم القلب أعظم، قدمه على نعيم البدن إبلاغًا في مدحهم فقال: {أولئك} أي العالو الدرجات {هم} أي خاصة {خير البرية}.
ولما خصصهم بالخيرية، ذكر ثوابهم، فقال ذاكرًا جنة أبدانهم معظمًا لهم بالتعبير عن إنعامه عليهم بلفظ الجزاء المؤذن بأنه مقابلة ما وصفوا به: {جزاؤهم} أي على طاعاتهم، وعظمه بقوله: {عند ربهم} إليهم المربي لهم وأي المحسن {جنات عدن} أي إقامة لا تحول عنها {تجري} أي جريًا دائمًا لا انقطاع له.
ولما كان عموم الماء مانعًا من تمام اللذة، قرب وبعض بقوله: {من تحتها} أي تحت أرضها وغرفها وأشجارها {الأنهار}.
ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال: {خالدين فيها} ولما كان النظر إلى الترغيب في هذا السياق أتم حثًا على اتباع الدليل المعروف، والمفارقة للحال المألوف، أكد معنى الخلود تعظيمًا لجزائهم بقوله: {أبدًا}.
ولما كان هذا كله ثمرة الرضا، وكان التصريح به أقر للعين لأنه جنة الروح، قال مستأنفًا أو معللًا: {رضي الله} أي بما له من نعوت الجلال والجمال {عنهم} أي بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق.
ولما كان الرضا إذا كان من الجانبين، كان أتم وأعلى لهم قال: {ورضوا عنه} لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه متفضل في جميع ذلك، لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقدره أحد حق قدره، فلو أخذ الخلق بما يستحقونه أهلكهم، وأعظم نعمه عليهم ما منّ عليهم به من متابعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك كان سببًا لكل خير.
ولما كان ذلك ربما ادعى أنه لناس مخصوصين في زمان مخصوص، قال معممًا له ومنبهًا على الوصف الذي كان سبب أعمالهم التي كانت سبب جزائهم: {ذلك} أي الأمر العالي الذي جوزوا به {لمن خشي ربه} أي خاف المحسن إليه خوفًا يليق به، فلم يركن إلى التسويف والتكاسل، ولم يطبع نفسه بالشر بالجري مع الهوى في التطعم بالمحرمات بل كان ممن يطلب معالي الأخلاق فيستفتي قلبه فيما يرضي ربه، فكان تواتر إحسانه يزيده خوفًا فيزيده شكرًا، فإن الخشية ملاك الأمر، والباعث على كل خير، وهي للعارفين، قال الملوي ما معناه: إن الإنسان إذا استشعر عقابًا يأتيه أو خسرًا، لحقته حالة يقال لها الخوف وهي انخلاع القلب عن طمأنينة الأمن وقلقه واضطرابه لتوقع مكروه، فإن اشتد سمي وجلًا لجولانه في نفسه، فإذا اشتد سمي رهبًا لأدائه إلى الهرب، وهي حالة المؤمنين الفارين إلى الله ومن غلب عليه الحب لاستغراق في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة إذ لا ينفك عن خوف إبعاد أو صد لغفلة أو ذلة، ومن غلب عليه التعظيم لاستغراق في شهود الجلاليات صار في الإجلال، ووراء هذا الخشية {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] فمن خاف ربه هذا الخوف انفك من جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه سبحانه، ولم يقدح في البينة ولا توقف فيها، وما فارق الخوف قلبًا إلا خرب، فكان جديرًا بأن يقدح في كل ما أدى إلى العمارة، وقد رجع آخر السورة على أولها بذلك، وبتصنيف الناس صنفين: صنف انفك عن هوى نفسه فأنجاها، وصنف استمر في أسرها فأرداها، وقد ذكرت في (مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور) سر تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لأبيّ رضي الله عنه بقراءة هذه السورة عليه بخصوصها، وحاصله أن سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة رضى الله عنهم قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما، قال: فسقط في نفسي من التكذيب أشد مما كان في الجاهلية، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقًا، وكأنما أنظر إلى الله فرقًا، ثم قص على خبر التخفيف بالسبعة الأحرف، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل وفيها أن الله يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيدًا، وأنه نزل عليه الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا، وأن اليهود اختلفوا في السبت، وسورة {لم يكن} على قصرها حاوية إجمالًا لكل ما في النحل على طولها بزيادة، وفيها التحذير من الشك بعد البيان، وتقبيح حال من فعل ذلك، وأن حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد، فيكون شر البرية، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليه رضي الله عنه تذكيرًا له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصورًا فيكون أرسخ في النفس وأثبت في القلب وأعشق للطبع، فاختصه الله بالتثبيت وأراد له الثبات، فكان من المريدين المرادين لما وصل إليه قلبه ببركة ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لصدره من كشفه الحجب ونفي الشياطين والنظر إلى سبحات القدس وشهود تلك الحضرة الشماء، وصيرورته إلى أن يكون أصفى الصحابة رضى الله عنهم مراقبة لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم بما يتذكر من الأمر الشريف بتخصيصه بذلك، فيصير كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائبًا عن تلاوة نفسه مصغيًا بأذني قلبه إلى روح النبوة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة.
ولثبوته في هذا المقام قال صلى الله عليه وسلم: «أقرؤكم أبيّ» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه وهو صحيح ورواه بعضهم مرسلًا، ومما فيه ولم أذكره في المصاعد سنة التواضع حتى لا يمنع أحدا ما يراه من علوه من القراءة على من هو دونه فإنه ما منع أكثر أهل الكتاب من الإسلام إلا رؤية ما كانوا عليه من العلم بكتب الله وسنن الرسل عليهم الصلاة والسلام وجهل العرب بذلك، فنظروا إلى ما كان ولم ينظروا إلى الحالة الراهنة الآن، فحلق الحسد أديانهم وسلبهم إيمانهم، وصاروا أشقى الناس- كما نبه عليه أول السورة- نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة- آمين. اهـ.

.قال الفخر:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الكفار أولًا في قوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] ثم ذكر ثانيًا حال المؤمنين في قوله: {وَمَا أمرواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} [البينة: 5] أعاد في آخر هذه السورة ذكر كلا الفريقين، فبدأ أيضًا بحال الكفار، فقال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} واعلم أنه تعالى ذكر من أحوالهم أمرين.
أحدهما: الخلود في نار جهنم.
والثاني: أنهم شر الخلق، وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول:
لم قدم أهل الكتاب على المشركين في الذكر؟
الجواب: من وجوه:
أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام، كان يقدم حق الله سبحانه على حق نفسه، ألا ترى أن القوم لما كسروا رباعيته قال: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» ولما فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال: «اللهم املأ بطونهم وقبورهم نارًا» فكأنه عليه السلام قال: كانت الضربة ثم على وجه الصورة، وفي يوم الخندق على وجه السيرة التي هي الصلاة، ثم إنه سبحانه قضاه ذلك فقال: كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضًا أقدم حقك على حق نفسي، فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر.
إذا عرفت ذلك فنقول: أهل الكتاب ما كانوا يطعنون في الله بل في الرسول، وأما المشركون فإنهم كانوا يطعنون في الله، فلما أراد الله تعالى في هذه الآية أن يذكر سوء حالهم بدأ أولًا في النكاية بذكر من طعن في محمد عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب، ثم ثانيا بذكر من طعن فيه تعالى وهم المشركون.
وثانيها: أن جناية أهل الكتاب في حق الرسول عليه السلام كانت أعظم، لأن المشركين رأوه صغيرًا ونشأ فيما بينهم، ثم سفه أحلامهم وأبطل أديانهم، وهذا أمر شاق، أما أهل الكتاب فقد كانوا يستفتحون برسالته ويقرون بمبعثه فلما جاءهم أنكروه مع العلم به فكانت جنايتهم أشد.
السؤال الثاني:
لم ذكر: {كَفَرُواْ} بلفظ الفعل: {والمشركين} باسم الفاعل؟ والجواب: تنبيهًا على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل، ومقرين بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وإنكار الحشر والقيامة.
السؤال الثالث:
أن المشركين كانوا ينكرون الصانع وينكرون النبوة وينكرون القيامة، أما أهل الكتاب فكانوا مقرين بكل هذه الأشياء إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان كفر أهل الكتاب أخف من كفر المشركين، وإذا كان كذلك فكيف يجوز التسوية بين الفريقين في العذاب؟ والجواب: يقال: بئر جهنام اذا كان بعيد القعر، فكأنه تعالى يقول تكبروا طلبًا للرفعة فصاروا إلى أسفل السافلين، ثم إن الفريقين وإن اشتراكا في ذلك لكنه لا ينافي اشتراكهم في هذا القدر تفاوتهم في مراتب العذاب، واعلم أن الوجه في حسن هذا العذاب أن الإساءة على قسمين إساءة إلى من أساء إليك وإساءة إلى من أحسن إليك، وهذا القسم الثاني هو أقبح القسمين والإحسان أيضًا على قسمين إحسان إلى من أحسن إليك، وإحسان إلى من أساء إليك، وهذا أحسن القسمين، فكان إحسان الله إلى هؤلاء الكفار أعظم أنواع الإحسان وإساءتهم وكفرهم أقبح أنواع الإساءة، ومعلوم أن العقوبة إنما تكون بحسب الجناية، فبالشتم تعزير وبالقذف حد وبالسرقة قط، وبالزنا رجم، وبالقتل قصاص، بل شتم المماثل يوجب التعزير، والنظر الشزر إلى الرسول يوجب القتل، فلما كانت جناية هؤلاء الكفار أعظم الجنايات، لا جرم استحقوا أعظم العقوبات، وهو نار جهنم، فإنها نار في موضع عميق مظلم هائل لا مفر عنه ألبتة، ثم كأنه قال قائل: هب أنه ليس هناك رجاء الفرار، فهل هناك رجاء الإخراج؟ فقال: لا بل يبقون خالدين فيها، ثم كأنه قيل: فهل هناك أحد يرق قلبه عليهم؟ فقال: لا بل يذمونهم، ويلعنونهم لأنهم شر البرية.
السؤال الرابع:
ما السبب في أنه لم يقل هاهنا خالدين فيها أبدًا، وقال في صفة أهل الثواب: {خالدين فِيهَا أَبَدًا} [البينة: 8]؟ والجواب: من وجوه:
أحدها: التنبيه على أن رحمته أزيد من غضبه.
وثانيها: أن العقوبات والحدود والكفارات تتداخل، أما الثواب فأقسامه لا تتداخل.
وثالثها: روى حكاية عن الله أنه قال: يا داود حببني إلى خلقي، قال: وكيف أفعل ذلك؟ قال: اذكر لهم سعة رحمتي، فكان هذا من هذا الباب.
السؤال الخامس:
كيف القراءة في لفظ البرية؟
الجواب: قرأ نافع البريئة بالهمز.
وقرأ الباقون بغير همز وهو من برأ الله الخلق، والقياس فيها الهمز إلا أنه ترك همزه، كالنبي والذرية والخابية، والهمزة فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال، كما أن من همز النبي كان كذلك وترك الهمز فيه أجود، وإن كان الهمز هو الأصل، لأن ذلك صار كالشيء المرفوض المتروك.
وهمز من همز البرية يدل على فساد قول من قال: إنه من البرا الذي هو التراب.
السؤال السادس:
ما الفائدة في قوله: {هم شر البرية}؟
الجواب: أنه يفيد النفي والإثبات أي هم دون غيرهم، واعلم أن شر البرية جملة يطول تفصيلها، شر من السراق، لأنهم سرقوا من كتاب الله، صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وشر من قطاع الطريق، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق، وشر من الجهال الأجلاف، لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح.
واعلم أن هذا تنبيه على أن وعيد علماء السوء أعظم من وعيد كل أحد.
السؤال السابع:
هذه الآية هل هي مجراة على عمومها؟
الجواب: لا بل هي مخصوصة بصورتين أحداهما: أن من تاب منهم وأسلم خرج عن الوعيد والثانية: قال بعضهم: لا يجوز أن يدخل في الآية من مضى من الكفار، لأن فرعون كان شرًا منهم، فأما الآية الثانية وهي الآية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم وتأخر، لأنهم أفضل الأمم.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
الوجه في حسن تقديم الوعيد على الوعد وجوه:
أحدها: أن الوعيد كالدواء، والوعد كالغذاء، ويجب تقديم الدواء حتى إذا صار البدن نقيًا انتفع بالغذاء، فإن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرًا، هكذا قاله بقرأط في كتاب (الفصول).
وثانيها: أن الجلد بعد الدبغ يصير صالحًا للمدارس والخف، أما قبله فلا، ولذلك فإن الإنسان متى وقع في محنة أو شدة رجع إلى الله، فإذا نال الدنيا أعرض، على ما قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
وثالثها: أن فيه بشارة، كأنه تعالى يقول: لما لم يكن بد من الأمرين ختمت بالوعد الذي هو بشارة مني في أني أختم أمرك بالخير، ألست كنت نجسًا في مكان نجس، ثم أخرجتك إلى الدنيا طاهرًا، أفلا أخرجك إلى الجنة طاهرًا!.
المسألة الثانية:
احتج من قال: إن الطاعات ليست داخلة في مسمى الإيمان بأن الأعمال الصالحة معطوفة في هذه الآية على الإيمان، والمعطوف غير المعطوف عليه.
المسألة الثالثة:
قال: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} ولم يقل: إن المؤمنين إشارة إلى أنهم أقاموا سوق الإسلام حال كساده، وبذلوا الأموال والمهج لأجله، ولهذا السبب استحقوا الفضيلة العظمى كما قال: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل} [الحديد: 10] ولفظة: {ءامَنُواْ} أي فعلوا الإيمان مرة.
واعلم أن الذين يعتبرون الموافاة يحتجون بهذه الآية، وذلك لأنها تدل على أن من أتى بالإيمان مرة واحدة فله هذا الثواب، والذي يموت على الكفر لا يكون له هذا الثواب، فعلمنا أنه ما صدر الإيمان عنه في الحقيقة قبل ذلك.
المسألة الرابعة:
قوله: {وَعَمِلُواْ الصالحات} من مقابلة الجمع بالجمع، فلا يكلف الواحد بجميع الصالحات، بل لكل مكلف حظ فحظ الغني الإعطاء، وحظ الفقير الأخذ.
المسألة الخامسة:
احتج بعضهم بهذه الآية في تفضيل البشر على الملك، قالوا: روى أبو هريرة أنه عليه السلام قال: «أتعجبون من منزلة الملائكة من الله تعالى! والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك، واقرؤا إن شئتم: {أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية}».
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لوجوه:
أحدها: ما روى عن يزيد النحوي أن البرية بنو آدم من البرا وهو التراب فلا يدخل الملك فيه ألبتة.
وثانيها: أن قوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} غير مختص بالبشر بل يدخل فيه الملك.
وثالثها: أن الملك خرج عن النص بسائر الدلائل، قالوا: وذلك لأن الفضيلة إما مكتسبة أو موهوبة، فإن نظرت إلى الموهوبة فأصلهم من نور وأصلك من حمأ مسنون، ومسكنهم دار لم يترك فيها أبوك مع الزلة ومسكنكم أرض هي مسكن الشياطين، وايضًا فمصالحنا منتظمة بهم ورزقنا في يد البعض وروحنا في يد البعض، ثم هم العلماء ونحن المتعلمون، ثم انظر إلى عظيم همتهم لا يميلون إلى محقرأت الذنوب، ومن ذلك فإن الله تعالى لم يحك عنهم سوى دعوى الإلهية حين قال: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ} [الأنبياء: 29] أي لو أقدموا على ذنب فهمتهم بلغت غاية لا يليق بها إلا دعوى الربوبية، وأنت أبدًا عبد البطن والفرج، وأما العبادة فهم أكثر عبادة من النبي لأنه تعالى مدح النبي بإحياء ثلثي الليل وقال فيهم: {يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ومرة: {لاَ يَسْئَمُونَ} [قصلت: 38] وتمام القول في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة.
{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}. اعلم أن التفسير ظاهر ونحن نذكر ما فيها من اللطائف في مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن المكلف لما تأمل وجد نفسه مخلوقًا من المحن والآفات، فصاغه من أنجس شيء في أضيق مكان إلى أن خرج باكيًا لا للفراق ولكن مشتكيًا من وحشة الحبس ليرحم، كالذي يطلق من الحبس يغلبه البكاء ليرحم، ثم لم يرحم بل شدته القابلة ولم يكن مشدودًا في الرحم ثم لم يمض قليل مدة حتى ألقوا في المهد وشدوه بالقماط، ثم لم يمض قليل حتى أسلموه إلى أستاذ يحبسه في المكتب ويضربه على التعليم وهكذا إلى أن بلغ الحلم، ثم بعد ذلك شد بمسامير العقل والتكليف، ثم إن المكلف يصير كالمتحير، يقول: من الذي يفعل في هذه الأفعال مع أنه ما صدرت عني جناية! فلم يزل يتفكر حتى ظفر بالفاعل، فوجده عالمًا لا يشبه العالمين، وقادرًا لا يشبه القادرين، وعرف أن كل ذلك وإن كان صورته صورة المحنة، لكن حقيقته محض الكرم والرحمة، فترك الشكاية وأقبل على الشكر، ثم وقع في قلب العبد أن يقابل إحسانه بالخدمة له والطاعة، فجعل قلبه مسكنًا لسطان عرفانه، فكأن الحق قال: عبدي أنزل معرفتي في قلبك حتى لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك فيقول العبد: يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته، وكذا حب الأب والأم، وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل.
أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي، ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول، فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار، والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم، وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح، فيقول الله: عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة، فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا، فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة، فلهذا قال: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} بل كأن الكريم الرحيم يقول: عبدي أعطاني كل ما ملكه، وأنا أعطيته بعض ما في ملكي، وأنا أولى منه بالكرم والجود، فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوبًا دائمًا مخلدًا، حتى يكون دوامه وخلوده جابرًا لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية.
المسألة الثانية:
الجزاء اسم لما يقع به الكفاية، ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء، فهذا يفيد معنيين.
أحدهما: أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص.
والثاني: أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية، فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلًا، على ما قال: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} [فصلت: 31].
المسألة الثانية:
قال: {جَزَآؤُهُمْ} فأضاف الجزاء إليهم، والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله: {الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ} [فاطر: 35] والجواب: أما أهل السنة فإنهم يقولون: إنه لو قال الملك الكريم: من حرك أصبعه أعطيته ألف دينار، فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي، فقوله: {جَزَآؤُهُمْ} يكفي في صدقه هذا المعنى وأما المعتزلة فإنهم قالوا: في قوله تعالى: {الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ} إن كلمة من لابتداء الغاية، فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان، إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة.
فإن قيل: فإذا كان لا حق لأحد عليه في مذهبكم، فما السبب في التزام مثل هذا الإنعام؟.
قلنا: أتسأل عن إنعامه الأمسى حال عدمنا؟ أو عن إنعامه اليومي حال التكليف؟ أو عن إنعامه في غد القيامة؟ فإن سألت عن الأمسي فكأنه يقول: أنا منزه عن الانتفاع والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع، فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله، فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه، كما روى: «الخلق عيال الله» وأما اليومي فالنعمان يوجب الإتمام بعد الشروع، فالرحمن أولى، وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك.
المسألة الرابعة:
في قوله: {عِندَ رَبّهِمْ} لطائف:
أحدها: قال بعض الفقهاء: لو قال: لا شيء لي على فلان، فهذا يختص بالديون وله أن يدعي الوديعة، ولو قال: لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولو قال: لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معًا، إذا عرفت هذا فقوله: {عِندَ رَبّهِمْ} يفيد أنه وديعة والوديعة عين، ولو قال: لفلان على فهو إقرار بالدين، والعين أشرف من الدين فقوله: {عِندَ رَبّهِمْ} يفيد أنه كالمال المعين الحاضر العتيد.
فإن قيل: الوديعة أمانة وغير مضمونة والدين مضمون والمضمون خير مما كان غير مضمون.
قلنا: المضمون خير إذا تصور الهلاك فيه وهذا في حق الله تعالى محال، فلا جرم.
قلنا: الوديعة هناك خير من المضمون.
وثانيها: إذا وقعت الفتنة في البلدة، فوضعت مالك عند أمام المحلة على سبيل الوديعة صرت فارغ القلب، فههنا ستقع الفتنة في بلدة بدنك، وحينئذ تخاف الشيطان من أن يغيروا عليها، فضع وديعة أمانتك عندي فإني أكتب لك به كتابًا يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وهو قوله: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} حتى أسلمه إليك أحوج ما تكون إليه وهو في عرصة القيامة.
وثالثها: أنه قال: {عِندَ رَبّهِمْ} وفيه بشارة عظيمة، كأنه تعالى يقول: أنا الذي ربيتك أولًا حين كنت معدومًا صفر اليد من الوجود والحياة والعقل والقدرة، فخلقتك وأعطيتك كل هذه الأشياء فحين كنت مطلقًا أعطيتك هذه الأشياء، وما ضيعتك أترى أنك إذا اكتسبت شيئًا وجعلته وديعة عندي فأنا أضيعها، كلا إن هذا مما لا يكون.
المسألة الخامسة:
قوله: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جنات} فيه قولان:
أحدهما: أنه قابل الجمع بالجمع، وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد، كما لو قال لأمرأتيه أو عبديه: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا فيحمل هذا على أن يدخل كل واحد منهما دارًا على حدة، وعن أبي يوسف لم يحنث حتى يدخلا الدارين، وعلى هذا إن ملكتما هذين العبدين، ودليل القول الأول: {جَعَلُواْ أصابعهم في ء إذا نهم واستغشوا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] فعلى القول الأول بين أن الجزاء لكل مكلف جنة واحدة، لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روي مرفوعًا، ويدل عليه قوله تعالى: {وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] ويحتمل أن يراد لكل مكلف جنات، كما روي عن أبي يوسف وعليه يدل القرآن، لأنه قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 26] ثم قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] فذكر أربعًا للواحد، والسبب فيه أنه بكى من خوف الله، وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان اثنان دون الإثنين، فاستحق جنتين دون الجنتين، فحصلت له أربع جنات، لسكبه البكاء من أربعة أجفان، ثم إنه تعالى قدم الخوف في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} وأخر الخوف في هذه الآية لأنه ختم السورة بقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} وفيه إشارة إلى أنه لابد من دوام الخوف، أما قبل العمل فالحاصل خوف الاختلال، وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلاف، إذ هذه العبادة لا تليق بتلك الحضرة.
المسألة السادسة:
قوله: {عَدْنٍ} يفيد الإقامة: {لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثيه: 45] {وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108] يقال: عدن بالمكان أقام، وروي أن جنات عدن وسط الجنة، وقيل: عدن من المعدن أي هي معدن النعيم والأمن والسلامة، قال بعضهم: إنها سميت جنة إما من الجن أو الجنون أو الجنة أو الجنين، فإن كانت من الجن فهم المخصوصون بسرعة الحركة يطوفون العالم في ساعة واحدة فكأنه تعالى قال: إنها في إيصال المكلف إلى مشتهياته في غاية الإسراع.
مثل حركة الجن، مع أنها دار إقامة وعدن، وإما من الجنون فهو أن الجنة، بحيث لو رآها العاقل يصير كالمجنون، لولا أن الله بفضله يثبته، وإما من الجنة فلأنها جنة واقية تقيك من النار، أو من الجنين، فلأن المكلف يكون في الجنة في غاية التنعم، ويكون كالجنين لا يمسه برد ولا حر {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13].
المسألة السابعة:
قوله: {تَجْرِى} إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد، ومن ذلك النظر إلى الماء الجاري، يزيد نورًا في البصر بل كأنه تعالى قال: طاعتك كانت جارية ما دمت حيا على ما قال: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99] فوجب أن تكون أنهار إكرامي جارية إلى الأبد، ثم قال: {من تحتها} إشارة إلى عدم التنغيص، وذلك لأن التنغيص في البستان، إما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم، وإما بسبب الغرق والكثرة، فذكر من تحتها، ثم الألف واللام في الأنهار للتعريف فتكون منصرفة إلى الأنهار المذكورة في القرآن، وهي نهر الماء واللبن والعسل والخمر، واعلم أن النهار والأنهار من السعة والضياء، فلا تسمى الساقية نهرًا، بل العظيم هو الذي يسمى نهرًا بدليل قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِىَ في البحر بِأمرهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} [إبراهيم: 32] فعطف ذلك على البحر.
المسألة الثامنة:
اعلم أنه تعالى لما وصف الجنة أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولًا والرضا ثانيًا، وروى أنه عليه السلام قال: «إن الخلود في الجنة خير من الجنة ورضا الله خير من الجنة».
أما الصفة الأولى: وهي الخلود، فاعلم أن الله وصف الجنة مرة بجنات عدن ومرة بجنات النعيم ومرة بدار السلام، وهذه الأوصاف الثلاثة إنما حصلت لأنك ركبت إيمانك من أمور ثلاثة اعتقاد وقول وعمل.
وأما الصفة الثانية: وهي الرضا، فاعلم أن العبد مخلوق من جسد وروح، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة وجنة الروح هي رضا الرب، والإنسان مبتدأ أمره من عالم الجسد ومنتهى أمره من عالم العقل والروح، فلا جرم ابتدأ بالجنة وجعل المنتهى هو رضا الله، ثم إنه قدم رضى الله عنهم على قوله: {وَرَضُواْ عَنْهُ} لأن الأزلي هو المؤثر في المحدث، والمحدث لا يؤثر في الأزلي.
المسألة التاسعة:
إنما قال: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} ولم يقل رضي الرب عنهم ولا سائر الأسماء لأن أشد الأسماء هيبة وجلالة لفظ الله، لأنه هو الاسم الدال على الذات والصفات بأسرها أعني صفات الجلال وصفات الإكرام، فلو قال: رضي الرب عنهم لم يشعر ذلك بكمال طاعة العبد لأن المربي قد يكتفي بالقليل، أما لفظ الله فيفيد غاية الجلالة والهيبة، وفي مثل هذه الحضرة لا يحصل الرضا إلا بالفعل الكامل والخدمة التامة، فقوله: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} يفيد تطرية فعل العبد من هذه الجهة.
المسألة العاشرة:
اختلفوا في قوله: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} فقال بعضهم: معناه رضي أعمالهم، وقال بعضهم: المراد رضي بأن يمدحهم ويعظمهم، قال: لأن الرضا عن الفاعل غير الرضا بفعله، وهذا هو الأقرب، وأما قوله: {وَرَضُواْ عَنْهُ} فالمراد أنه رضوا بما جازاهم من النعيم والثواب.
أما قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
الخوف في الطاعة حال حسنة قال تعالى: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}
[المؤمنون: 60] ولعل الخشية أشد من الخوف، لأنه تعالى ذكره في صفات الملائكة مقرونًا بالإشفاق الذي هو أشد الخوف فقال: {هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] والكلام في الخوف والخشية مشهور.
المسألة الثانية:
هذه الآية إذا ضم إليها آية أخرى صار المجموع دليلًا على فضل العلم والعلماء، وذلك لأنه تعالى قال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] فدلت هذه الآية على أن العالم يكون صاحب الخشية، وهذه الآية وهي قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} تدل على أن صاحب الخشية تكون له الجنة فيتولد من مجموع الآيتين أن الجنة حق العلماء.
المسألة الثالثة:
قال بعضهم: هذه الآية تدل على أن المرء لا ينتهي إلى حد يصير معه آمنًا بأن يعلم أنه من أهل الجنة، وجعل هذه الآية دالة عليه.
وهذا المذهب غير قوي، لأن الأنبياء عليهم السلام قد علموا أنهم من أهل الجنة، وهم مع ذلك من أشد العباد خشية لله تعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: «أعرفكم بالله أخوفكم من الله، وأنا أخوفكم منه» والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.